كتاباتي المفرج عنها #1: قابلتها هناك ..
قابلتها هناك .. في الميدان..
لا أذكر من الأمر شيئاً غير إني نهضت من علي الأرض و قفزت فوقه أبعده عنها دون حتى أن أنفض عن ملابسي غباراً أو أتساخاً .. و لا أدري كيف خلعت عنه خوزته المتينة تلك و أنهلت بها علي رأسه حتى تهشمت ، غير مكترثاً بندائها و هى من كانت فريسته منذ لحظات ، غير مكترثاً برؤيتهم ذوي القبعات الحديدية و القطنية الحمراء و هم قادمين نخوي معلنين مارثون التحرير لينقضوا علي كما لم أرى من قبل في أفلام الحركة ..ثم لا شئ .. بياض .. أو سواد .. لا أتذكر ..
ثاني شئ أتذكره بوضوح غير تلك اللقطات و الإنارات المتقطعة التي لم تتوقف منذ هجومي علي جندي الأمن المركزي مروراً بهؤلاء أصحاب البيادات الذين قدموا نحوي من كل حدب و صوب ، و صوت سيارة الاسعاف المتقطع و مسعفين يعدون في كل اتجاه و جنود الأمن و الشرطة العسكرية بعدد لا بأس به ، تركوا الجميع و استقلوا الاسعاف معي ، و لم يسعفني نظري الزائغ حينها من تبين موقعها بأدنى درجات الوضوح ، فلم تتضح الصورة نسبياً بعد هذا إلا و أنا طريح الفراش في مستشفي عرفت من جدرانها التي تعتريها بقع الرطوبة و من نوافذها المهملة و التي يتسلق عليها خيط عنكبوت ، عرفت انه القصر العيني ، حتى قبل أن يصرح لي زميل الغرفة و نزيل الفراش المجاور لي بذلك في قادم الحديث .
العالم كان أكثر ضيقاً ، و لا أستطيع رفع جفني لأعلي بسهولة ، ولا حتى بصعوبة ، إنما أقتصرت مقدرتي علي تلك الصورة الضيقة للعالم ، أحاول تحريك يدي نحو عيني لأرغمها علي اتساع فوهتها دون جدوي ، فيداي لا تتحركان ، و إحساسي بهما أقترب من العدم ، أحاول أن أنظر من فتحتى الضيقة نحو يداي الثابتتان ، و لكن فقرات رقبتي تمنع عني الانحناء ، لا تستطيع حتى رفع جمجمتي من موضعها و قد أكتسبت ثقلاً إضافياً بأربطة كثيرة كثيفة .
أشعر في قدمي ببرودة عجيبة ، أحاول تحريكها لأبتعد عن مصدر البرودة ، لكنه يبدو ملاصقاً لقدمي بقوة ، و لا تستطيع عيناي إلا النظر نحو نزيل الفراش المجاور و الذي لمحت قدمه بعد مشقة لأجدها مقيدة في حديد الفراش ، و ينظر نحوي و يبتسم من خلف ضمادات كثيفة بيضاء زينت وجهه ، و أعتلى بعضها قطرات .. من دماء ..
شئ سخيف أن يقيدك شخص في فراش ، الغريب اني لم أتذمر ، و لم أبدي أيه محاولة للخلاص ، فأنا أفهم جيداً علي أي شئ ستتم محاسبتي ، كل ما كان يهمني وقتها مكانها ، أين هي ؟ هل استقلت الاسعاف معي ؟ .. لا اتمنى هذا ، أم تركتني في قبضة الأوغاد و أنصرفت في أمان ؟ ....
** *** **
البدايات ، هي دائماً طرف الخيط التي توصلنا للنهاية أو النهايات ، و ما أتذكره من البداية و ما تبقي منها في رأسي بعد الصدمات التي من المؤكد أثرت علي قوة ذاكرتي لهو شئ غاية في البهاء و الجمال ، لقد قابلتها هناك في الميدان ، حيث أختلط الجميع دون تمييز بين غني و فقير أو مثقف و جاهل أو ذكر و أنثي ، الخوف كان مسيطراً في البداية ، لكنني لم أكن خائفاً البتة ، صورة خالد سعيد البريئة و صورتة المشوهة تطاردني و تميت قلبي و تمنع عني الخوف ، و يتردد في أذني شيئاً فشيئاً المثل المجيد " من خاف سلم" .. لكني كنت متأكد من أن الخوف هو قاتل خالد سعيد و ليس مخبري الداخلية ، الخوف هو ما كسرناه لنزين الميدان و يعلو صوتنا بسقوط النظام ، لا مبارك وحده ، بل سقوطه و من معه .
حينها قابلتها ، كنت تائهاً ، لا أعرف أحد هنا ، أنطلقت مع المسيرة من أمام مسجد مصطفي محمود ، متجهين نحو ميدان مصر الأشهر ، نحو ميدان التحرير ، كنت مهزوزاً في البداية ، فلم أعرف حقاً ما الذي دفعني لإنهاء خوفي المتنامي اللامتناهي ، بالتأكيد لعبت صورة خالد سعيد دورها بدورها .
سرت مع السائرون مضطرباً ، حتى وصلنا الميدان و تعالت الهتافات ، و أنا ما زال بعض من خوفي ملصق شفتاي ببعضها ، حتى أصطدمت المسيرة بحائط من الخوذات السوداء ، وجدتها تمسك بيدي و يتعالي هتافها ، نظرت نحوها طويلاً قبل أن أردد خلفها .. "يسقط يسقط حسني مبارك " ..
** *** **
كانت إلي جواري مع أول نداء لي بالدعوة لسقوط مبارك ، و كانت بجواري مع أول عصا أمن مركزي تلقيتها علي ذراعي لتتورم لأيام ، و كانت تعدو معي وقت أن غدر بنا أمن النظام ليلة المبيت في الميدان ، هرولت معي من هراوات الأمن ، و تدافعت بصحبتي بين الأزقة هرباً من الغاز المميت ..
زينت الاعتصام بجمالها و بصوتها الشدي الذي يصدح كلما سمحت الفرصة بأغنيات الشيخ امام و رباعيات جاهين، اتعجب منها و من جرأتها علي مجابهة الآراء، فبعض منا نحن الرجال كان الخوف يعترينا و نحن نجابه الرأي بالرأي أي أحد من أنصار مبارك، لكنها كانت علي عكسنا، و علي عكس ما عهدت من بنات حواء.
لن أنسها يوم موقعة الجمل كيف كانت هي من تحاول حمايتي، لم أدرك ذلك بسهولة، كنت أعتقد أني أنا من يتولى مسئولية حمايتها، لكني أذكر بوضوح عدد المرات التي أنقذت فيها حياتي، نعم حياتي، فيوم موقعة الجممل لن أنس أن حيواتنا جميعاً كانت علي المحك، ترى زميل يسقط بجوارك و عسكر طنطاوى يقف ليشاهد في مشهد مخز لا يمت للأنسانية و لا شهامة المصريين بصلة، و علمنا حينها اننا انخدعنا في قيادات الجيش، حتى قبل ان يعلنوا ولائهم للشعب و السخرية منا بتأدية التحية العسكرية لشهدائنا.
اتذكر يوم التنحي، يوم أن اتجهت معها صوب قصر الرئاسة، كانت حماستها تمنحنى الحياة، و كانت زقزقة صوتها المهيمنة علي صمت الاعتصامات يثير كل ما في نفسي من شجن، و يمنح الجميع ابتسامة تفاؤل، و يدفعني للتساؤل لماذا لا تحترف الغناء؟ ..
** *** **
وسط انغماسي في ذكرياتي يدخل الغرفة رجل يبدو عليه الوقار بصحبه الطبيب ، يسحب مقعد حديدي و يجلس أمامي و يقول بهدوء و هو ينفث دخان سيجارته التي لم ألحظها إلا حينها :
- ايه اللي وداك هناك؟
لم أفهم الغرض من السؤال او من هذا الشخص أصلاً إلا عندما دخل رجل آخر يبدو في مقتبل الثلاثينيات و يمسك بدفتر كبير ، يسحب مقعد آخر و يبدأ في الكتابة، فأقول أنا:
- مين حضرتك ؟
فرد بتلقائية :
- محمود حسن .. النيابة العامة ..
تنهدت بارتياح و لم اتحدث، فقال:
- انت متهم بحيازة سلاح ناري و مولوتوف و التعدي علي فرد أمن أثناء تأدية وظيفتة و مقاومة السلطات أثناء تأدية عملها و التحريض علي العنف ، ما أقوالك في التهم المنسوبة اليك؟
لدقيقة لم أستوعب ما أمر به، لكنني أفقت علي تكرار السؤال .. فرددت:
- أنا ماعملتش حاجة من اللي بتقول عليها دي.
ثم لمعت في ذاكرتي لقطتى و أنا أهاجم عسكري الأمن المركزي، و لم أتحدث، فقال وكيل النيابة و هو ينظر نحو الكاتب:
- اكتب يا ابني.. و قد قررنا نحن "محمود حسن" وكيل نيابة قصر النيل بحبس المتهم "احمد جلال" عشرون يوماً علي ذمة التحقيقات .. علي أن يراعي التجديد في الميعاد، علي ان يتم نقله من المستشفي الي السجن، عقب تحسن حالته الصحية التي تسببت مدافع مياه فض التظاهرات في تدهورها.
ثم نهض و انصرف ...
** *** **
تقابلنا بلا اتفاق أمام ماسبيرو و هتفت من بعدها "الداخلية بلطجية" و "مسلم .. مسيحي .. ايد واحدة" .. و في محمد محمود لنهتف ايضاً "الداخلية بلطجية" و نتبعها بـ"يسقط حكم العسكر" .. و نظائرها من هتافات علي غرار "عسكر لازم يمشي.. عسكر مايحكمشي" .. لم أسألها يوماً عن اتجاهاتها السياسية، لم أعلم هل هي من أهل اليمين أم اليسار، هل مع العلمانية ام الشيوعية، لم أهتم بهذا طالما المبدأ حق، لا يهم من يقوله و من يؤيده طالما حقاً ..
اسمع صوتها و أنا تغطي وجهي و أذني ضمادات كثيفة، و لا أعلم هل هذا الصوت حقيقي ام من نبع خيالاتي، لكنني استمتعت به و باللحظة التي أمر بها، لا أعلم لماذا لم أقكر يوماً في أن اتقرب منها، ربما كان يجب علي ذلك، ربما لو حاولت مرة أن اضغط أزرار الهاتف و أختار اسمها لأتصل بها طالما منحتنى رقم هاتفها ليكون أمراً جيداً، لكن لا أعلم فيم كنت أقاوم، لا أعلم حقاً.
اكتفيت بأني أقابلها صدفة في كل اعتصام و كل مسيرة تؤيد حرية او تدقق في تصرف الحكام الجدد او تنادي بسقوط حكم العسكر..
و الآن كل ما أريد هو ان تعود بي الأيام لأفعل ما لم أجرؤ علي فعله حينها، أن اسمع صوتها قبل أن تطلع شمس كل صباح، أن اتعلم معني الجمال المطل من عيناها، ام اعشق معني النعومة الانثوية التي تمنحها لي خصلات شعرها، أن أعيش أيامي معها كما يفعل المحبين، و خوفي يكن في ان يكون كل هذا ما هو الا خرف المرض.
** *** **
لم تتحسن صحتى، و كيف و أنا اشعر بعظامي التي لم تلتئم و الطبيب الذي يرفض ان يوقع علي أوراق نقلي للسجن، و وكيل النيابة الذي لم يزورني من حينها و مجند الشرطة العسكرية الجالس بجوار الفراش و يبدل مع رفيق آخر له كل ليلة، فلا تمر ثانية إلا و أنا تحت الملاحظة، يخيل لي لو يستطيعوا معرفة ما أفكر فيه لفعلوا ما بوسعهم ليعرفوا، و والله لو فعوا لما وجدوا غير صديقتي و حبيبتي علي ما أظن هي ما يشغل بالي، و يؤرق مناماتي في الصباح أو المساء، فلا أدري ماذا حدث لها، هل هي بمأمن أم التقطها العسكر كرهينة اضافية للحرب علي الحريات.
لم أفكر كثيراً في أمري أنا بقدر ما فكرت في أمرها هي، لكن همهمات الأطباء علي باب غرفتي استرعت انتباهي، و سببت لي أرقاً اضافياً، و الأمن لا يسمح لأحد بالدخول لتوقيع الكشف علي إلا طبيب واحد فقط، هو مجند أغلب الظن لكنه يتسم بكثير من الضمير، فلم يوافق يوماً علي نقلي للسجن متعللاً بخشية ان يحاسبة الله، شكرت الله أنه لم يضعني بين ايدي شخص اعدم العسكر ضميره او ارهقخ تخاذل راق الكفاح من الاخوان المسلمين الذين باعوا قضايانا المشتركة مع أول طعم ألقاه لهم العسكر ليناولهم السلطة المطلقة، فقرروا الانسحاب من النضال مؤقتاً او دائماً متعللين بضرورة سريان أحوال البلاد و العباد.
لم أعرف ماذا يحدث لكن مرت أيام طوال لم أدري لأي شئ وصلت الاحتجاجات، لا أعرف كم شهيد سقط، و كم عين فقأتها رصاصات القنص الذكية، و كم عاهة مستديمة تسببت بها طلقات الخرطوش و كم طرف اضطر الاطباء لبتره من اجل انقاذ الحياة، و كم مستنشق للغاز قضى نحبه و هو يهرب من بطش السلطة.. و ما زالت صورة خالد سعيد تطاردني، فلم يعد بيننا خالد سعيد واحد، أصبحنا كلنا هو حقاً .. لم يعد هناك فارق..
أصبحنا جميعاً ضحايا تحت الطلب، متى يريد ممسك السلطة سفك الدماء ما عليه إلا استفزازنا لنصل للشارع، و يبدأ في قتله الممنهج لنا دون ان يعبر له ضميره عن اي وجع.
ما ان ساعدتني ارجلي علي الانتصاب حتى نهضت و خرجت من الغرفة نحو بهو القصر العيني، أقابل احد المصابين الذي يوقفني و يصافحنى و يقول بفرح:
- حمد لله علي سلامتك يا بطل.
لم أفهم ما عناه إلا لما تركني جندي الشرطة العسكرية أغادر المستشفي وحيداً و كأن كل شئ انتهي..
أخرج من المستشفي و أنا استمع لهتافات كثيرة .. أمام المستشفي ..
أخرج لأجد صورة كبيرة لي يحملها متظاهرين ..
و هي واقفة هناك .. بينهم
..
.. ..
في شموخ ..
..
تمت،
تعليقات
إرسال تعليق