المسافر .. رواية بطعم العلم!


عندما وصلتني "المسافر" لأسرق معها بعض المتعة الوقتية، أضعت وقتاً كبيراً في صفحاتها الأولى التي لم تكن تبشر بشئ من العنوان علي الاطلاق. ولا أدري أين أضعت الوقت دون تناول الرواية مرة أخرى، بيد أن رغبتي في تناول هذه الوجبة المفعمة بثقافة كاتبها كانت خير دليل لايجاد الطريق نحو القراءة، أصطحبت الرواية معي فوق السحاب، وضعت سماعات الأذن، ولم تخذلني قائمة تشغيل مصر للطيران، صوت أم كلثوم العذب في أقرب أغنياتها لقلبي "يا مسهرني" لأذوب مع صوتها ومع هذه الحكاية السحرية التي يقدمها عماد بأنامل عالم فيزياء قضى عمره بين نظريات الفيزياء، وعمد علي تطبيقها بحذافيرها ليخرج بنتائجها المبهرة.


رواية المسافر من الوهلة الأولى و حتى نهايتها أبرزت ثقافة كاتبها في تجربته الروائية الأولى، إسلام عماد قدم نموذجاً طيباً للرواية ها هنا، رواية مكتملة الأركان الأدبية، تدور في فلك علمي بحت، تسمح لنا بأن نسرح بخيالاتنا معها و بحقائقها العلمية التي ترصدها بوضوح جم، رواية تعكس لنا كل ما أنفقه صاحبها من وقت في المطالعة و الدراسة، مثال حى علي كل تجارب عماد في القراءة.
عقدة الرواية لم تتضح بصورة سريعة، أخذت المقدمة من عماد وقتاً طويلاً، لكنه لم يكن مملاً أبداً، كانت الصراعات الثانوية في غاية الوضوح، رسمها عماد بدقة متناهية، لم يبد الدوافع في كثير الأحيان، أو أبداها من وجهه نظر أبطاله، لكنها كانت علي قدر الحاجة، دون تكلف أو حديث منمق بلا فائدة.
حقيقة أنك تعلم قبل أن تقرأ أنك أمام ثلاثية لهي حقيقة مخيفة، فأنت تقرأ و أنت علي علم بأن الرواية ستحظي بنهاية مفتوحة، و كان التحدي الذي قبله عماد بكل ثقة، هو أنك لن تستطيع أن تترك الصفحة التي تقرأها من أجل أن تعرف إلي أين انتهت الرحلة، مهما بلعت درجة التشويق التي تدفعك للقراءة، فهي لم تكون كافية لتدفعك للعدو نحو النهاية، فلا شئ سيدفعك للملل من الصفحة الحالية، إنما كل ما سيدفعك إليه هو الانتهاء منها للعدو نحو الصفحة التالية غير مكترثاً بأن الرواية جزء من ثلاثة، و غير مكترثاُ بكم الشوق لمعرفة النهاية، كل ما ستهتم به هو التشويق اللحظي الذي نجح في رسم صورته الكلية كاتب الرواية بعناية و بتفوق منقطع النظير .
اسلوب عماد الرشيق الذي ينهي الرواية دون أن تشعر بذلك، السهولة و النعومة في الانتقال بين الصفحات لهو أمر في غاية الدقة و المثالية، و يدفعنا للقرار الواثق نحو اقتناء الجزء الثاني من ثلاثيته وقت أن يسمح بالافراج عنها من درج مكتبه.
الرواية في المجمل هي المعادلة الصعبة التي يريد أن يحققها أي كاتب، معادلة أولياء الأمور، معادلة النفع العلمي و الأدبي الذي يلهب الآباء ليضعوا أمام أبنائهم عملاً أدبياً صالح لكافة الأعمار، يقدم صورة معلوماتية دقيقة، و صورة أدبية ذات رونق مهيب، لتخرج لنا رواية المسافر.

مثلت العلاقات الانسانية التي رسمها عماد في روايته لمحة فنية أكن لها التقدير، فأبطال الرواية ليسوا في انعزال تام عن الواقع، مسألة عدم الانخراط في الحدث الرئيسي متناسياً أن لأبطال الرواية حياة عليهم أن يعيشونها، هي من النقاط الوجودية التي ترهقني في أي رواية أو حدث قصصي أقرأه، أفتش و أنبش عن الحدث الاعتيادي، كوب الشاي غير ذو الصلة، جلسة المقهى المثالية وسط الاصدقاء، العلاقات الثانوية التي تجعل الرواية تتشبث بالواقع لا أن تهجره. كل الأحداث التي ربما يعتقد أي كاتب انها عديمة القيمة بالنسبة للرواية، إنما هي - علي الأقل من وجهه نظري - هي الدعامة الكبرى التي تمنح أي حدث روائي واقعيته و أثره الابداعي، و هنا قد رسم عماد تلك الصورة أيضاً برشاقة مبهجة، دون تكلف، ودون زيادات عديمة القيمة..
المسافر في المجمل هي رواية ملتهبة بالتفاصيل، ملهمة بالأفكار، إثارتها تخطف الأنفاس، و لا داع للقلق من انها بداية خيط ثلاثية، فهذا أبدع ما فيها، أي اننا من الآن علينا انتظار كتابين قادمين بنفس القيمة، و بذات المتعة، و هو تحد لا أتمن أن أضع نفسي فيه، فحظاً موفقاً لإسلام عماد، و في انتظار الجزء الثاني من ثلاثيته البديعة "المسافر" ..
المسافر صدرت عن دار اكتب للنشر و التوزيع و هي متوافرة الآن بمعرض القاهرة الدولي للكتاب. 
المسافر كتقييم عام أمنحها 4/5 ..
حيث لا وجود للكمال :) 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أول عيد ميلاد في الغربة

رهف: لله مصير من سلك دربك .. صرخة أنثوية مرتفعة الصدى في وجه المجتمع.

مكتبتي #1 : الليالي الهادئة .. ميسلون هادي