قليلون من يفهمون :(


أنهيت عمرتك الأولي منذ ساعات ، تشعر أنك ولدت من جديد ، في حاجة لإعادة تقييم كل شئ. 
البداية لم تكن سهلة على الإطلاق، كل هذه الأحاديث حول رهبة المكان و قدسيتة .. حسناً هذا لا شئ ، منذ أن تبدأ عجلات الحافلة في الدوران ، و تبدأ معها عضلة القلب في الخفقان بصورة مخيفة، تشعر أن قلبك يبذل مجهوداً خارقاً ليصل الدماء لأطراف أصابعك و التي فقدت الاحساس بها الآن .. و عجلات الحافلة قد بدأت توها الحركة ، و لم يعد في القلب طاقة لأي شئ ، فالخفقان بجنون وحده يكفيه ، كيف ستمر أحد عشر ساعة قبل الوصول و أنت بهذه الحالة ، كيف سيهدأ القلب و لو لدقيقة يمارس فيها عادته الأثيرة يتوزيع الدماء علي الجسد بصورة طبيعية ، و كيف سيفعل هذا مع كل الضغط الذي لم يعد يتحمله لا هو و لا العقل الملئ بالأفكار ، فطوال أحد عشر ساعة تتحرك فيها الحافلة و تدور عجلاتها برفق تارة و بسرعة جنونية تارة أخرى و العقل يبحث في أرجاءه عن هذا الفكرة ، هل حقاً منحنى الله فرصة لأطلب طلباً و سينفذه كما وعد ، أول طلب و أول دعوة أمام بيته ستكون حقاً لي .. أحد عشر ساعة لم تكن كافية لأقرر ، هل ما أردته .. هي .. أم أنا .. أم هم .. أم ... مالهذا يبدو معقداً ، أي مطلب سأطلبه من الله فور أن أشهد بيته الحرام ، أي أمنية أحترق قلبي و أنا أتمناها بكل شغف مع كل صلاة فجر ، أي رغبة سأختارها دون غيرها .. 
تتوقف العجلات عن الدوران و يهدأ القلب شيئاً فشيئاً و يعود العقل لصفاءه ، و تدور العجلات ليختل توازن القلب و العقل و تعاد الكرة مرات و مرات بلا نهائية مفرطة ، و يأت الموعد ، تتجرد من ثيابك برضاك ، و تواري عورتك بقطع من القماش محببة للنفس ، لست مبهرج الزي أو رثه ، إنما أنت كما أنت ، علي سجيتك ، كما خلقك الله و كما أحب أن يراك ، هكذا بأبسط الأزياء ، لست في حاجة للتكلف ، لست في حاجة لتخبر الجميع من أنت ، لست في حاجة لتبرز مدي غناك أو فقرك ، فالزي واحد ، ربما أستحال بعضه لبعض النقوش ، لكنه لم يزد من سعره شئ ، و لم تلفت أنتباهك نقوشه و أنت تشتريه بريالات معدودة ، إنما كل ما كنت تفكر فيه ، هل هذا يليق بوقوفي أمام ربي ، هل سيرضى عني الله لو لم أنفق علي زي إحرامي كما ينبغي ، و هل سيعفو الله عني إن أسرفت .. 
تصبح الآن الكيلومترات المتبقية كمقدرا ما سبق ، برغم انه لا يقارن به شيئاً ، و تبلغ من أمنياتك مبلغاً لم تعهده من قبل ، هل حقاً تفصلني دقائق مرت ساعات عن رؤية هذا المعلم الذي سمعت أبي و أمي يبكون متمنين رؤيته قبل أن تدق الساعة دقاتها ، و ها أنا أحصل على هذا الفخر بسهولة ، ألم يكن أبي أحق بتلك الرحلة و قد أقترب من عامه الستين و لم ير ملمح البيت ، ألم تكن أمي أحق بزياره قبلة المسلمين و القاء السلام علي ابراهيم أبو الأنبياء بدلاً عني ، لكن مع هذا ستلوح لحظة إيمانية بأن الله أختارك أنت لهذه الزيارة ، ربما لم تحن لحظتهم بعد ، قد يكن شوقهم ليس كافياً بعد ، أم شوقهم زائد عن الحد فأراد الله أن يلقنني درساً بطريقة أو بأخرى .. 
بقدر ما كنت تفخر بطاقتك الجسدية بقدر ضعفك و ضعف نفسك و أنت تري الكعبة لأول مرة علي الحقيقة ، آآآآآآه ه ه ... كم أن الانسان ضعيف ، كم المشاعر المختلطة مع كم الأمنيات المتضاربة مع حوار مهذب مع الله بأنه مدين لك بأمنية واحدة ، فعليك أختيارها بعناية ، أوبعد أن أختارك لزيارة بيته مخلفاً أبويك خلفك تعتقد أنه ما زال مديناً لك بشئ ، فوالله الانسان لطماع .. 
ما زلت تفكر و تفكر ، أوليس من الممكن أن أحظ بأمنيتان ، ليس هذا كثيراً علي الله ، أمنيتان فقط ، أو ربما ثلاثة ، .. و لكن إن كان الأمر متعلقاً بواحدة .. فـ" اللهم أشف أبي .. اللهم أشف أبي .. اللهم أشف أبي" .. لن تعلم كم من مرة كررتها ، فعقلك المنتبه لن يسمح لك بإحصاء المرات ، فهو منشغل ببهاء المنظر ، منشغلاً بالنظام الرباني الذي يسير عليه البشر علي أختلاف لغاتهم و درجة فهمهم للأمور و أعراقهم و أنسابهم و غناهم أو فقرهم. ليس هناك من شئ أقضل مما تراه عيناك الآن .. فبأي شئ تفكر .. بأي شئ .. 
تطوف بالبيت و ترى اناس قادتهم لهفتهم بالبيت للتعلق به مقاومين التيار و أنت الذي لم تصمد لربع دقيقة من تدافع الناس ، أين ذهبت قوتك ، أين ذهب بطشك ، الآن صرت خاوياً ضعيفاً ، ألا تستطيع أن تكون مثل هؤلاء المتعلقين بأستار الكعبة طالبين هذه اللمسة البسيطة و التي تخوض فيها ايديهم السماء لتلامس الجنة .. لتلامس حجر الجنة الذي تركه الله علي الأرض ليشغل عقولنا بما يدخره لنا في رياضه .. أعجزت أن تخوض غمار هذا ، إذن فتباً لك .. 
هل أنهيت طوافك ؟ كيف لم تجيد الحساب ، كيف أن رغبتك في الطواف تغلبت عي قدراتك الحسابية التي شهد الجميع بعبقريتها ، ما الذي ينقصك ؟ عقل راجح أم أصابع سبعة ؟ أم شخص يذكرك بأنك الآن يجب أن تدور في حلقات أكثر اتساعاً .. هل أفسدت عمرتك بعد .. لنرى .. 
أنهيت طوافك لست متذكراً أسبع أم ثمان جولات خضت .. لنكتشف هذا لاحقاً . أما آن أوان السعي .. أن تركض بين الصفا و المروة متخذاً من خطوات هاجر أم اسماعيل نهجاً للجنة ، هل تعبت و أنت تعدو فوق الأرض الرخامية ، كم مرة توقفت تجرع من زمزم ، كم مرة شكوت فيها آلام قدمك ، هل شكت هاجر ، و هل حازت المياة مثلك .. مالك لست مؤهلاً بما يكفي لخوض غمار هذا .. أين ذهبت شدتك و قسوتك ، أين ذهبت طاقتك ، أين ؟؟ 
الآن انتهيت .. الآن بات كل شئ أمام الله .. الآن هو الحاكم .. الآن أدعو أن يتقبل منك ، أن يهديك لطريق مستقيم ، أن يمنح كل من علي الأرض فرصة لزيارة بيته ، للتمتع بما فيه من بهاء .. هل نسيت شيئاً .. أدع لكل فرداً بأسمه .. حتى تتأكد من تمام قوه عقلك ، فأنت لم تنس واحد ممن عرفوك ، لتحمد الله على نعمه العقل و تشكره علي تأشيرة زيارة البيت و تعده ألا تخاذل في المرة القادمة .. لن أضيع فرصة حتى أنهض لزيارة بيتك فما أمتعها من لحظات .. قليلون من يفهمون :) 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أول عيد ميلاد في الغربة

رهف: لله مصير من سلك دربك .. صرخة أنثوية مرتفعة الصدى في وجه المجتمع.

مكتبتي #1 : الليالي الهادئة .. ميسلون هادي