ثورة .. الـ .. أممم .. الأدبي
خرج علي الجمهور متوتراً، يتقدم خطوة ويسترجعها من جديد، بداخله رغبة طاغية بالنجاح، هو لم يخض غمار ما خاضه من أجل أن يتراجع ها هنا، علي خشبة مسرح يطل من خلاله علي جمهور كبير، حاول أن يصم آذانه عن لفظ نابي أخرجه أحد الحضور أثناء دخوله متوتراً، قرر الانفصال عن العالم، رفع صوته بالغناء، لم يسمعه أحد، بدت همهمتهم واضحة، للحظة أختلط الأمر عليه، هل يكمل أم يتوقف وينسحب للأبد، يكتفي بالغناء أمام مرآة الحمام وفي أعياد ميلاد أصدقائه كالعادة، ربما الأعراس والمناسبات أيضاً، جال بخاطره طريق الفشل لثانية، ونظر علي الجانب الآخر، نظر أمامه ليبصر سخرية ولا أعتناء وتثبيط للعزيمة، لكن لم ير ما القابع لا علي مد البصر ولا ما بعده، فرح بالمجهول، ورفع الصوت ليلهب القلوب..
المشهد السابق هو مشهد ساقه خيالي ليعبر به عن بدايات عبد الحليم حافظ الفنية، قطعاً المشهد الحقيقي أكثر لهيباً وروعة عن هذا، لكنني سقت المشهد لأسباب عدة، أهمها هو تغير الذوق العام، هل تتخيلون أن عبد الحليم لم يلاق الترحيب في بداية مشواره، كان مطرب أقل قيمة من مطربين سبقوه، وكذلك عمر دياب مقارنة بعبد الحليم، ثم محمد حماقي بعمرو دياب، ثم أوكا وأورتيجا بمحمد حماقي. عبد الحليم وأم كلثوم كانت أصواتهم وآدائهم يطرب السميعة، أما الآن هناك جمهور، جمهور لا يعرف الجلوس، لا يعرف الزي الرسمي، لا يعرف الصمت أثناء ما يغني المطرب. لقب المطرب نفسه، الآن اسمه مغني، سقطت صفة الطرب عن المهنة إذن.
الآن نحن أمام شيئاً ما يسمي ثورة التصحيح الأدبي، ربما لم أكن لألاحظها لولا انخراطي في هذا المجتمع الزائف عبر الفيسبوك. لكن مستوى الثورة يثير ضحكاتي وسخريتي بحق، فلا يوجد شئ اسمه ثورة ضد الفن، خاصة في وقتنا هذا، ربما كان هذا ممكناُ وقتما كان عدد دور النشر محدود فبإمكانهم السيطرة علي المنتج المنشور ومحاربة من يخالفهم الرأي. أما الآن فالوضع مختلف، المسألة تكمن عندي في السبب الذي تحدثت عنه في البداية، تغير الذوق، منذ أكثر من خمسة عشر عاماً وقعت بين يداي رواية المعذبون في الأرض لطه حسين، فتحت دفة الكتاب لأجد نفسي محملقاً في الكلمات غير مدركاً أياً ما يقوله العميد، فلعنته ولعنت الكتاب ولعنت التراث بأكمله، وعدت لأقرأ العدد الجديد من رجل المستحيل. الآن وبعد مرور خمسة عشر عاماً علي هذا المشهد، لا أعتقد أن بإمكاني أن أصف سعادتي وأنا أمسك بكتاباً للعقاد أو أقرأ رباعية لجاهين، أو قصيدة لشوقي، أو مسرحية شعرية، أو رواية لطه حسين، أو احسان عبد القدوس، وربما محجموعة قصصية للمازني أو يوسف ادريس.
تعالوا أكون أكثر وضوحاً.
الثورة لا يجب أن نستغلها لإفراز الأدب بقدر ما نستغلها لتحسين الذوق.
بمعنى أكثر وضوحاً، قام الاستاذ أمير عاطف خلال شهر رمضان بمجموعة ندوات لمناقشة بعض الأعمال في بيت دون، الرجل عمل في صمت وقدم أنجازاً جيداً وخطوة في ما أسميه الثورة الحقيقية، فقط من أجل تحسين الذوق العام، وهذا ما نحتاج اليه. أن يصف لنا الكتاب الكبار مجموعة من الكتب للعامة ليقرأوها وحينها فقط سيقوم المتلقي بانتخاب الأعمال التي يجب عليها أن تبقي من الجديد، لا لفرض القيود علي النشر ولا هدف لشئ اسمه النقد لا البناء ولا الهدام، أتذكر د. سيد الوكيل وهو من قامات النقد في مصر قال ذات ندوة أن "الأدب باق والنقد إلى زوال". القارئ هو الناقد الحقيقي الذي ينهض بالأدب وليس الناشر ولا الناقد ولا الأديب نفسه، الأديب يلبي حاجات المتلقي، القارئ هو الكل في هذه المعادلة الصعبة.
إذا أردنا أن نقوم بثورة أدبية حقيقية أعتقد أن دورنا ككتاب هو الأهتمام بالمنتج الخاص بنا في المقام الأول والضغط وايجاد حلول لتغير نمط التذوق الفني للمجتمع بأسره، أخبرني أحمد مجدي ذات مساء أثناء نقاش حول الكتب أن عندما نتوقف عن دراسة رواية الأيام وكأنها منهج دراسي ونبدأ في دراستها للمتعة بما قدم فيها طه حسين من فن وأدب وجمال وكمال أدبي، حينها فقط ستتغير عقلية أجيال بأسرها..
تعليقات
إرسال تعليق